هناك مصطلحات من كثرة ما رددناها قديماً بمنتهى اللامبالاة ابتذلت وفقدت قيمتها ومعناها، وبعد ثورة يناير أصبحت هذه الكلمات والمصطلحات والتعريفات فى بؤرة الضوء، لها معنى وقيمة وقامة، كلمة الشعب كان الكل يمتطيها كجواد رابح لتخدير الناس والكذب عليهم دون أن تكون لهذا الشعب قيمة، كذلك كلمة الديمقراطية، اختصرناها فى صندوق وتذكرة انتخاب ولافتة تأييد، بعد أن نزعنا منها الروح وجعلناها مسرحية هزلية، وهناك كلمة الحوار التى أفرغناها من معناها فأصبحت أنت تقول ما تريد ونحن نفعل ما نريد، حوار طرشان، مائدة مستديرة وكراسى مربعة، أما الحوار نفسه فهو ديكور لاستكمال الأبهة، أما كلمة الشارع فكم من الجرائم ارتكبت باسمها، وتصارع الجميع من أجل الحصول على التوكيل الحصرى للشارع المصرى، ومن ضمن الرسائل العديدة التى تلقيتها من المشغولين بهموم هذا الوطن والمستشعرين نبضه، تلقيت من الصديق وزميل الدراسة بكلية طب القاهرة الدكتور محمد فتحى الرسالة التالية، عنوانها.. الشارع لمين؟

يقول د. محمد فتحى: «رحم الله شاعر وفنان مصر صلاح جاهين، الذى مات كمداً وقهراً من واقع قتل حلمه وأحلام جيله. ورحم الله كثيرين غيره عاشوا وناضلوا ورحلوا، دون أن تتكحل عيونهم برؤية الميلاد الجديد للوطن».

فى فيلم المبدع الراحل يوسف شاهين (عودة الابن الضال) دفقات عبقرية من أغنيات صلاح جاهين ورفيق دربه فى رحلة الوطن كمال الطويل، وإحداها تتساءل «الشارع لمين؟». لقد قال الشارع المصرى كلمته وسمعها وفهمها الجميع، هذا الشارع الذى لم يعبأ به أحد طوال عقود من الزمن، لم يهتم المتطفلون على حلم الوطن بفهمه والتواصل معه، لم يعبأوا بسماع صوته أو الحديث إليه، وظل صوته على خارطة الوطن «كلام شوارع».

كم أنصفك الزمن والتاريخ يا شارعنا المصرى، رغم كل ما أصابك من تهميش وتطنيش، من تجاهل وتغييب، وقهر ومهانة. الآن الكل يلجأ إليك ويحتكم لك، طلباً فى عفوك ورضاك وشهادتك لصالحه، بعد أن تمزقت كل الشهادات المضروبة، وغدت كل الشهادات مجروحة. أنت الآن الملجأ والملاذ، والحَكَم وصوت الجماهير، الذى يستظل الجميع بظله، حتى من قطّعوا أشجار أحلام الوطن وجرًّفوا آماله فى غد أفضل.

شباب الوطن الحُرّ اخترق حاجز الصمت، وانطلق صوتهم هادراً فى شوارع مصر وسمائها، وعندما استعصى صوت الجماهير على أى قمع أمنى أو ترويع بلطجى، أو تزييف إعلامى أو ترويض سياسى، أصبح لا مناص من مخاطبة الشارع الحقيقى والتوجه إليه، والعزف على أوتاره النفسية والذهنية والاقتصادية والاجتماعية وجذوره التاريخية وعاداته وتقاليده.. إلخ. فجأة أصبح لهذا الشارع وجود طاغٍ، وحضور لا يقاوم، وصوت يستجديه الجميع، ويستنجد به الجميع، غدا الشارع هو الشرعية، هو الضمير الحقيقى للشعب، وهو الحَكَم.

قول وقول كمان يا عمنا صلاح جاهين، قلتها آنذاك ونقولها الآن.. الشارع لمين؟ الشارع لنا.. والناس التانيين دول ناس أنانيين.. دول مش مننا.. الشارع لمين؟ الشارع لنا.